فقد وقع السؤال عن جواز استعمال جلد الخنـزير المدبوغ في الأحذية، ورفع إلى اللجنة نسخة من فتوى صادرة عن المجلس العالي للشؤون الدينية بتركيا بجواز ذلك، وظهر بعد دراستها أن أصحاب تلك الفتوى اعتمدوا فيما ذهبوا إليه من طهارة جلد الخنـزير إذا دبغ على ما يروى عن القاضي أبي يوسف، وما ذهب إليه الظاهرية، وما اختاره الشوكاني ثم القرضاوي.

دليل رأي الجواز

يستدل لذلك الرأي بعموم أحاديث الدباغ كقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر»، فكلمة «أيُّما» عامة أيَّما عموم، فتتناول جلد الخنـزير أيضا ويجاب لهذا الرأي عما يورد عليه من أن الضمير في قوله تعالى في سورة الأنعام: 144 «أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ» يعود على المضاف إليه، وذلك يدل على أن الخنـزير نجس العين لحمه وجلده وجميع أجزائه، فلا يتناوله عموم أحاديث الدباغ — يجاب على هذا الإيراد بأن. الضمير يعود على المضاف، فيبقى سائر أجزاء الخنـزير غير اللحم على الإباحة؛ ومع تسليم عوده على المضاف إليه فإنه لا يمتنع أن يقال بأن رجسية سائر أجزاء الخنـزير مخصصة بأحاديث الدب.

رأي الجمهور

وبإزاء الرأي المذكور أعلاه نجد مذهب الشافعية والحنفية، وهم مع قولهم بأن الدباغ مؤثر في التطهير يستثنون جلد الخنـزير، كما أن الشافعية استثنوا جلد الكلب أيضا، أما الحنابلة والمالكية فلا يرون الدباغ مطهرا أصلا، فلا يطهر به جلد من الجلود عندهم، فظهر أن المذاهب الأربعة اتفقت – ولو من جهتين مختلفتين – على عدم طهارة جلد الخنـزير المدبوغ.

دليل النجاسة والتحريم

سبق أن عمدة استدلال رأي الطهارة والجواز عموم أحاديث الدباغ، لكن هذا العموم مخصَّص، وتخصيصه هنا يقع بالقياس، وتخصيص الخبر بالقياس عمل سائغ على مذهبنا، بل قد نسبه ابن الحاجب في المنتهى (ص 98) إلى الأئمة الأربعة وغيرهم — وإن كان في نسبته إلى الإمام أبي حنيفة نظر — وقد نقل التاج السبكي في رفع الحاجب عن الشيرازي أن الإمام الشافعي نص على جواز التخصيص بالقياس في مواضع. (نقله د. هيتو في تعليقه على التبصرة للشيرازي ص 137.)

وجاء تقرير هذا القياس في كلام الإمام أبي القاسم الرافعي في الشرح الكبير (1/82) على النحو الآتي: «لنا أن جلدهما [يعني الكلب والخنـزير] لم ينجس بالموت، لما بينا أنهما نجسان بالحياة، والدباغ إنما يطهّر جلدا نجس بالموت، لأن غاية الدباغ نزع الفضلات ودفع الاستحالات، ومعلوم أن الحياة أبلغ في ذلك من الدباغ، فإذا لم تفد الحياةُ الطهارةَ حتى كان نجسا قبل الموت، فأولى أن لا يفيدها الدباغ.»

والقياس الذي خصص به عموم الخبر هنا هو القياس المسمى بـ«القياس الأولوي»، وهو من القياس الجلي الذي هو أحد قسمي قياس العلة، ويلاحظ على الشوكاني القائل بظاهر عموم أخبار الدباغ أنه ذهب في كتابه في الأصول المسمى إرشاد الفحول إلى التخصيص بالقياس الجلي وهذا آخر كلامه في المسألة (ص 271): «الحق الحقيق بالقبول أنه يخصص بالقياس الجلي لأنه معمول به لقوة دلالته وبلوغها إلى حد يوازن النصوص، فالقياس الكائن بها في قوة النصوص.» فبان أنه اختار مسلكا في أصوله، ثم لما جاءت نوبة بناء الفروع على أصوله غفل عنه، أو لم يتفطن لمدرك القياس، فجاء فرعه مخالفا لأصله، ولا عصمة إلا لمن عصمه الله.
فإذا ثبت أنه ليس للمجوزين دليل غير العموم، فقد ثبت أيضا أن ذلك العموم في معرض التخصيص بما كاد الإجماع ينعقد على صحة التخصيص به، فاستقر أن رأي الجمهور هو الراجح دليلا، ولله الحمد على حسن توفيقه.

الناحية الاجتماعية

ولنتوجه بعد تثبيت التحريم والنجاسة من الناحية الشرعية إلى الأثر الاجتماعي الذي قد يستتبعه القول بالطهارة والجواز، إنني أرى — والله أعلم — أن أيامنا هذه شاهدت نوعا من التخلي عن التحفظ الذي كان مشهودا في أهل هذا المجتمع قبل عقد أو عقدين تجاه المُوبِقات كالزنا وشرب الخمر، وبسبب ذلك التخلي فشا هذه الأعمال في المجتمع فشوًّا فاحشا، فعلى سبيل المثال: أصبح شرب الخمر — الذي كان يُعَدّ في الماضي من عظائم المنكرات لا يتجاسر على إتيانه إلا معلن بفسقه — شيئا عاديا.

ففي جوّ كهذا، وفي مسألة تتعلق بالخنـزير الذي هو شبيه بالخمر في أن الامتناع من تناوله يعد من مزايا الإسلام وشعائره، لا أرى أن حاجة المجتمع تدعو إلى التخفيف وفتح الباب على مصراعيه، بل إن دعت إلى شيء فإلى تشييد ما بقي في نفوس المسلمين من النفور والكراهة والعياف من الخنـزير.

والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وبارك وسلم، والحمد لله في البدء والختام.

وكتب
محمد طـه بن يوسف كران
بدار العلوم العربية الإسلامية، فوري
في 16 رجب 1421 هـ / 14 أكتوبر 2000 م

جلد الخنزير المدبوغ

Jul 11, 2022 | Purity